الأربعاء، 9 مايو 2012

مرسول الكرامة




مرسول الكرامة
طائر الجيزو
يخترق السحب البيضاء باجنحته النفاذة مُحلقاً في أفق السماء ثم يستعرض رقصة حلزونية تلتف حوله خيوط أشعة الشمس فيبدو كالكائن الفضائي الذي هبط من سفينته علي غابة خضراء واسعة.

اقترب طائر الجيزو من غابة النسور هكذا تُسمي نظراً لشجاعة طيورها في مقاومة الطيور المُعادية من الغابات الأخري والدفاع عن الحق فشهد لهم التاريخ بحضارتهم وشجاعتهم فنالت عن جدارة لقب غابة النسور.

أخذت اجنحته تخفق حتي وصل إلي جذع شجرة عند البيت الخشبي الذي بناه بجهده وذكائه . يتصل البيت بعش الصغار الذي بنته زوجته.

ها هو عائد إليها ومنقاره يحمل الطعام ورسالة سرية .
استقبلته زوجته بتغريدة مُبهجة ونغمات متقطعة لا تخلو من الشجن عبرت فيها عن سعادتها بعودته إلي بيته بعد لهفة وطول انتظار .

تكحلت السماء بلون البنفسج بعد أن احتلها الليل تدريجياً ورحل النهار كعاته في هذا الوقت.

بعد وجبة غذاء شهية أخذت عيون الصغار تغفو وشرع النوم في مداعبتهم مع سيمفونية القمر التي يعزفها الأب والأم فغرقوا في مُحيط النوم الجذاب.

أخذ طائر الجيزو يتنقل بين اغصان الشجر المُتشابكة بكثافة حتي يترك صغاره يستمتعون بنومهم إلي أن وصل إلي أعلي شجرة في الغابة .
يكشف من موقعه نجوم الليل السابحة في صفحة السماء الداكنة والقمر اللامع البراق .

بينما كان يتصفح الرسالة السرية داعبته زوجته بمنقارها علي حين غفلة وسألته :
ـ مابك يا حبيبي ؟ وفيما تفكر
لم يرد علي السؤال ولكنه فوراً ما رد علي مداعبتها وأخذ يدغدغها ويداعب جسدها بمنقاره حتي غرقا في حضن دافئ يُبحرها إلي عالم عشقٍ.

مُستلقياً علي سطح من أوراق الشجر فارداً جناحيه نظر للسماء ثم همس لزوجته التي تجلس بجواره :
ارسل لي طائرٌ من طيور غابتنا العاملين في غابة السعديُّ (تقع بالقرب من غابة النسور ) رسالة يتظلم فيها من ملك الغابة.
مرة أخري يقوم باعتقال وتعذيب طيور غابتنا دون ذنب سوي ابداء الرأي أو الاعتراض علي ظلم وقع عليهم.
ردت عليه دون تفكير :
ومادفعهم للهجرة إلي هناك ؟

ـ عدة اسباب أولها الظروف السيئة التي تمر بها غابتنا حتي الآن وخاصة أن الأفاعي مازلت تحكمنا وتسرق خيرات الغابة وتشاركهم في السلطة طيور الكتنيُّ رمز المهانة والخيانة .
ـ والسبب الثاني  
ـ أن صلة قرابة تجمع بين طيور الغابتين وكما تعرفين ان طائر السعديُّ لا يُحب العمل والتفكير ولا يملك الذكاء والعلم والعزيمة التي يملكها طائر غابة النسور . هم فقط يملكون الذهب ولكنهم في حاجة لمن يصنع لهم منه شيئاً مُفيداً .
فهي مصلحة متبادلة بين الطرفين ولا يجوز للطرف الاخر ان يمس كرامتهم ويصبح المال مقابل الكرامة والعلم هذا غير مقبول.
ـ معك حق يا حبيبي ولكن دعنا نعترف ان اغلب المغتربين هناك يتقبلون الاهانة فيعطونهم الفرصة لاستباحة كرامة وشرف الاخرين.
ـ نعم اعرفهم فهم من سلالة طائر الكتنيُّ يعشقون التبعية والاهانة.
ولكني سأظل ادافع عنهم كما دافعت عن الطيور الثائرة هنا وسأقاضي الملك واكشف جرائمهم نحن لا نقبل الاهانة والظلم.
ـ احبك لانك علمتني معني الكرامة والعزة.
داعبها بمنقاره في رقبتها قائلاً.
ـ وانا احبك لانك ادركتي قيمة الكرامة.
اتسمحين لي برقصة الحرية

لم يكمل جملته حتي رفرفت بجناحيها وانطلقت في السماء بقوة صاروخية سابحة في الفضاء الواسع فقام يلاحقها.
تراهما في السماء نيزكان يندفع كل منهما في مسارٍ يقتربان تارة ويبتعدان تارة فيحفران علي جدران السماء معاني الحرية

.................................................
تمر الايام
.................................................

طائر الجيزو وزوجته الآن يخترقان السحب في طريقهما إلي غابة السعديُّ ليُسبِّحان باسم ربهما عند الصخرة السوداء المقدسة.
اثناء الرحلة سألته ونبضات قلبها تخفق.
ـ إني اخاف عليك
ـ وانا لا اخشي غير الله
ـ انت تعرف الملك انه ظالم يمكنه اعتقالك وتعذيبك لانك قررت يوماً ان تقف في وجهه.
نحن لم نترك صغارنا لزيارة الملك السعديُّ بل لزيارة ربنا وهذه الصخرة ليست ملكاً لاحد فهي ملك لكل الطيور المُسالمة.
حبيبتي لا داع للخوف من العواقب بل خافي من ان استسلم يوماً للظلم وابيع نفسي او كرامتي.
ـ لست خائفة انا اعرفك جيداً انت مرسول الكرامة الذي لم ولن يخضع يوماً لاحد.
ـ هيا بنا لقد وصلنا الي الحدود حاولي ان تسبقيني ان كنتي قادرة.

اثناء هبوطهم انقض عليهم سرب من طيور الملك السعديُّ وقيدوهم بالحبال.
اخذوهم الي عرش الملك نظر لهم ثم قال لحراسه.
ـ لا اريد الفتاة دعوها ترحل وانت اقترب
فاقترب منه طائر الجيزو الحُر رافعاً رأسه وقال له :
ـ ماذا تريد وبأي حق تعتقلني
رد عليه الملك بسخرية :
ـ اعتقلك ؟ بل اجلدك عشرون جلدة وسنة سجن
لانك تعديت علي ذاتي الملكية وقررت ان تقاضيني يوماً
ولكني سأسامحك إن قبلت قدمي وترجيتني ان اتركك وبالطبع ان تنازلت عن القضايا التي رفعتها ضدي.
يمكنني حينها ان اعفو عنك.
خرجت الكلمات الاخيرة من انف الملك.

نظر له جيزو باستغراب ثم اخذ ينفجر ضحكاً
قائلاً :
انك حقاً لطير مريض و مُعقد . من تظن نفسك؟
افعل ماشئت ولن اتنازل عن حق زملائي
واعلم جيداً اني لست من طيور الكتنيُّ اصحاب الاهانة والذل
انا من طيور الجيزو اصحاب الكرامة والحرية.
ولابد ان تعرف جيداً ان غابة النسور لن تبقي علي حالها وستتحرر قريباً من طيور الافاعي والكتنيُّ وستعود لنا خيراتنا وسنتقدم عن باقي الغابات وستظل انت بغبائك واموالك ستنفذ يوماً فلن تجد عقول نيرة تصنع لك شيئاً.
لن يدوم الحال يا من تدعي نفسك ملكاً
الملك هو الله.
هذا ردي و افعل ماشئت

عاصفة من اللهب شبت و هبت في عين الملك واصوات رعد خرجت من شفاه غاضبة و صرخ.
اجلدووووووووووووووووووه.
يُجلد غداً امام الجميع ليصبح عبرة لغيره من طيور النسور المتمردين
والتهمة هي
اهانة الذات الملكية

.....................................
في نفس الوقت
......................................

تقف زوجة الجيزو علي حدود الغابة لا تعلم ماذا سيفعل الملك بحبيبها
فسألت احد الحراس عنه فرد قائلاً :
ـ سمعت الملك يقول انه سيُجلد غداً.
شعرت حينها وكأن خنجر يطعنها من الخلف فاخذت تحلق تبعث برسالة لطيور الجيزو في غابة النسور كي ينقذوا مرسول الكرامة.

...................................
مرت دقائق
.................................

وصلت الرسالة الي غابة النسور .
سرب من طيور الحرية يقترب من بيت السفير السعديُّ وخادم الملك في غابة النسور.
اصوات غاضبة تملأ المكان واخذ كل طائر ينقش علي صخور بيت السفير كلمات حُرة تسب الذات الملكية وتفخر بكرامة الجيزو المعتقل.
وبعد مشاورات قرروا انهم سيجلدوا خادم الملك إن تعرض احد لصديقهم الطائر الثائر الجيزو الحر.
وامروا خادمه ان يبلغه رسالتهم

...............................
بعد دقائق
..............................

تصفح الملك الرسالة ثم مزقها بمنقاره غاضباً
وأمر حراسه بوقف حكم الجلد غداً إلي ان يجد طريقة اخري ينتقم منها من هذا الطائر المتمرد وطلب ان يراسل طيور الكتنيُّ والافعي
بعد طول تفكير قرر ان يبدأ بحارس الافعي الكبري والحاكم الاعلي لغابة النسور.
كتب في الرسالة

عندي طائر من الطيور الاحرار الثائرين المزعجين اهانني واريد عقابه وطأطأة رأسه ولم يمنعني عنه سوي اتباعه من الاحرار فاطلب منك ان تساعدني فانا اعلم انك لا تحبهم مثلي فانت تسرقهم وتعذبهم وهم يتمردون ويتحدثون عن كرامة من اين جائوا بهذه الكلمة.
باختصار اريد حلاً
امضاء الملك السعديُّ طال عمره

.................................
بعد مرور يوم من الرسالة
 ...................................

عاد المرسول بالرد فتصفحه الملك
حيث كانت تقول الرسالة

من حارس الافعي الكبري
والحاكم الأعلي لغابة النسور إلي الملك السعديُّ
ضحكت كثيراً حينما سمعت عن تهمة إهانة الذات الملكية
انت لا تعرف طيور الحرية جيداً
دعك من تلك التهمة وغيرها باخري علي اعتبار أن التهمة القديمة كانت مجرد اشاعة من حارسك غير صحيحة والحقيقة هي
انه يتاجر بالسموم مثلاً
وتم القبض عليه عند حدود غابتكم وانه سيحاكم امام قضائكم
والقضاء قضائك بالطبع فلتفعل به ما تشاء
..................................
اخذ الملك الغبي متسرعاً ينفذ نصيحة حارس الافعي
و يكتب رسالة للطيور الحرة يقول فيها

لقد اخطأ حارسي في نشر الجريمة التي ارتكبها طائركم
الحقيقة انه قبض عليه علي حدود غابتنا وبحوزته فوق المائة كجم من السموم فطائركم الحر تاجر سموم وسيُحاكم هنا
انتهت الرسالة
........................
اعترضت طيور الجيزو حين تلقت الرسالة الغبية
حيث لا يقدر طائر الجيزو علمياً علي حمل اكثر من اربعين كجم اثناء سفره
فتصاعدت الازمة وزاد اصرارهم علي جلد الخادم ان لم يعد طائر الجيزو سالماً.

....................................
اليوم التالي
......................................

بينما كان الملك الظالم يجلس متوتراً علي عرشه تلقي رسالة من حارس الافعي يقول فيها

يا ايها الملك الذكي اراك قد بالغت في تلفيق التهمة للطائر الحُر
فتقبَّل خطتي لانقاذ الموقف
فور انتهائك من قرائتك لهذه الرسالة
ستُفتَعل ازمة قوية بين حراس الافاعي وطيور الجيزو
فينشغلون عن قضية مرسول الكرامة
وعليك ان تأمر خادمك لترك غابتنا والعودة لأرضه
ومن ناحية اخري تهدد بطرد طيور الكتنيُّ من ارضك وقطع العلاقات بيننا
حتي يدافعون عنك وينقلبوا علي الطائر المعتقل
انتهت الخطة

............................................
مرت الايام
...........................................

بعد انشغال الطيور الثائرة بالازمة الداخلية لغابتهم
استغلت طيور الكتنيُّ في غابة النسور الموقف وقاموا بزيارة الملك السعديُّ وقبلوا قدميه واستسمحوه ان يُعيد العلاقات بين الغابتين وأن يفعل بطائر الجيزو ما يريد
ورحب الملك بالاتفاق .

.....................................................
في معتقل غابة السعديُّ
 .................................................

في قفص مظلم يظهر طائر الجيزو علي صخرة مُقيد الأجنحة مرفوع الرأس يغرد معزوفة الحرية حتي قام الحارس بفتح باب السجن ودخل عليه الملك.
نظر إليه نظرة احتقار وضحك مستهزئاً وقال :
ـ يا لك من مسكين مازلت تصدق ان هناك ما يسمي بالكرامة والحرية
هل تعلم أن كرامة غابتك اليوم قد خضعت امام هيبتي ونقودي.
والفضل يعود إلي طيور الكتنيُّ والافاعي هم من سيحكمون الغابة وانت وامثالك لن تكونوا سوي سلالة من الطيور الغوغائية وستنقرض يوماً ما.
أما انت فقد باعوك لي بثمن رخيص جداً سافعل بك ما يخطر في بالي حان وقت الانتقام.
قاطعه الجيزو سريعاً قائلاً :

بل حان الوقت لأن ادفع ثمن حريتي وكرامتي فهي كنوز ثمينة لا يمكنك شرائها من الاحرار لا بسوط تمسكه او بمال تملكه.
وطيور الجيزو ليسوا سلالة قابلة للانقراض بل فكرة إن ماتت ماتت الحياة معها كالماء والهواء.
وغابة النسور لم تكن يوماً للخونة والجبناء واللصوص والقتلة بل هي ارض الاحرار وستظل كذلك ولن ننقرض يوماً ايها الطائر الغبي.
سننتصر وستراني قريباً اتمثل في وجوه اخري تشبهني وسياقتلك طائر مثلي يقطف ريشك ويسقيك من كأس المهانة والذل وستخضع لانك لا تفهم معني الكرامة.
اما انا وامثالي فلن نخضع يوماً.
هيا افعل بي ما تريد ودعني اتنفس حريتي وافخر بكرامتي وإن متُّ علي يدكم فيكفيني أن اموت مرفوع الرأس وانني لم أخضع يوماً لطائر مريض مثلك.
لن تنال من كرامتي المجد للاحرار.

..................................................
تمت
...................................................
بقلم ـ أشرف ثروت